صحيفة إلكترونية استقصائية ساخرة
after header mobile

after header mobile

إقتصاد القرب: ماهيته و مزاياه

 


هو نمط من الإقتصاد أضحي غريبا عن العالم الحديث, مع أنه كان النظام الإقتصادي الأوسع إنتشارا لقرون, بل و ما زال قائما إلى اليوم و إن كان في دوائر ضيقة. هذا النوع من الإقتصاد مبني على علاقات تجارية و صناعية “نووية” و معاملات مباشرة, طرفاها { الزبون و الممون} أفراد يتفاعلون في ما بينهم في إطار ما يصح نعته ب”الشركات المعاشية”.و هي مؤسسات و مقاولات لا يتعدى فريقها الخمسة أفراد في أحسن الأحوال, كما يتبلور هدفها الأول في ضمان مدخول كريم لأفرادها مع ضمان إستقلالية كاملة للقائمين عليها, و ذلك بعيدا عن الضغوط السيكولوجية التي طفح بها الكيل في أوساط النظام الإقتصادي العالمي القائم


من خصائص “الشركات المعاشية” أو شركات الأفراد كذلك هو تداخل الوظائف, بل إمتزاجها ببعضها, بحيث يلعب رب العمل دور المسير و العامل في نفس الوقت, بما يكسر تلك الروابط الفوقية و السلطوية الواسعة الإنتشار داخل الشركات العملاقة و العالمية بالخصوص, و التي تشبه إلى حد كبير التقسيم الطبقي في الديانة البوذية. هذا الإقتصاد المباشر و المبني على الأعمال بين متعاملين من نفس الجنس {فرد ـ فرد} يشبه إلى حد كبير الإقتصاد ذو البعدين حرفة ـ مهنة السائد في المجتمعات الحرفية, لكنه في نفس الوقت يستمد هياكله و آلياته من النظام الإقتصادي الحديث ذو البعدين مال ـ أعمال أو مستثمر ـ مستخدم

ما دعانا لطرح هذا الشكل من الإقتصاد, و الذي يبدو في أول وهلة و كأنه دعوة إلى التخلف خطوة إلى الوراء, هو إيماننا بنجاعته في حل العديد من مشاكل مجتمعات و دول ضاق بها الحال من الركود الإقتصادي الرهيب الذي خيم على العالم بأسره, و ضاقت عنها البدائل و الحلول. دول لم يعد لها حظ في المنظور القريب و المتوسط في حجز زاوية مؤثرة في اللعبة الإقتصادية القائم العمل على تشكيلها حاليا من قبل القوى العظمى, كما لا تتوفر على عوامل محفزة و مؤهلات كافية لخلق مؤسسات محلية الإنشاء من شأنها أن تضاهي نظيراتها الأجنبية وتقارعها في إقتسام حصص الأسواق العالمية. على هاته الدول أن تبدع حلولا داخلية ترتكز على الموارد الوطنية المتوفرة و يتم تنفيذها بواسطة أدوات ذات صنع محلي, دون إغفال الجهود التقليدية المبذولة لإنتزاع ما يمكن إنتزاعه من فوائد الإقتصاد المعولم, و إن كانت تبدو شحيحة في الوقت الراهن { لعل أبرزها جلب الإستثمارات الأجنبية}. من هنا يستمد إقتصاد القرب أهميته بالنسبة لهذه الدو ل. فإقتصاد القرب, بالمفهوم الذي سبق ذكره, يستهدف إحداث حركية إقتصادية واسعة النطاق تشرك جيوشا من الافراد و العائلات في تعاملات بينية قد لا تخلق ثروة أو قيمة مضافة على المستوى الماكروإقتصادي, و لكنها ستخلق دينامية ميكروإقتصادية, بما يخرج الوضع الإجتماعي السائد في هذه الدول من الركود القاتل الذي يقض مضاجع شرائح عريضة من المجتمع و يخلق إستياءا واسعا لدى الشباب ينذر بإنفجار إجتماعي قد يحدث في أية لحظة إن بقى الوضع على ما هو عليه


ما دعانا بالأساس إلى طرح هذا النوع من الحلول كذلك هو عدم قناعتنا بجدوى الحلول النمطية التي يتهافت عليها الجميع و التي تهدر مجهودات جبارة لن تحدث ـ لوحدها ـ تغييرا جوهريا و ملموسا إن كتب لها التوفيق. فإعتماد مقاربة مبنية على جلب الإستثمارات ستفضي في أحسن الأحوال إلى تحسين ظروف بعض المئات أو الآلاف من العائلات لا غير, و ليس بوسعها إستيعاب النمو الديموغرافي السريع الذي تعرفه جل دول العالم الثالث, مما يعطي صبغة تراكمية للتحديات الأولية للدول المعنية و يهدد تماسكها الإجتماعي و السياسي. بخلاف إقتصاد قرب الذي يهدف إلى لتقدم بخطوات صغيرة لكنها عامة و شاملة
ولتقريب القراء و المهتمين أكثر و توضيح الصورة لصناع القرار بشكل أتم, سأستعرض بشكل خاطف بعض مزايا هذا الشكل من الإقتصاد لعل ذلك يرفع من تحسيس المعنيين بأهمية الفكرة و يحفزهم على الإنتفاض في وجه الحلول التقليدية و المستوردة عامة, و التركيز على مخارج مبنية على المعطيات الداخلية و المؤهلات المحلية و التي تنتظر من يصقلها


ـ محاربة الإحتكار: يعد قطع الطريق على بسط نظام إحتكاري من أهم مميزات إقتصاد القرب, سواء ذلك الذي تتحكم في خيوطه الشركات الأجنبية الدخيلة و المستفيدة من طاقاتها التسييرية و المعرفية الهائلة, أو ذلك الذي تحرسه المؤسسات المحلية و المستفيدة في كثير من الأحيان من تفضيلات لا تمت للتنافسية الشريفة بصلة, و تقوم على رعايتها ماكنة مكتملة الأركان يقف على تشغيلها ذوو النفوذ كلما ظهر تهديد ما يهددها


بتبني نظام إقتصادي مباشر يتم خلق أعداد هائلة من المنافسين للشركات ذات الحجم “إكس إكس إل” قادرين على رد الظلم و الحيف بشكل تلقائي إن تجرأت إحدى هذه الشركات على الدخول في لعبة إحتكارية خسيسة ترمي للزيادة في الأسعار و التضييق على المواطنين. هذه القدرة على قطع دابر الإحتكار مضمونة بالعدد الكبير  من لشركات المعاشية الناشطة في نفس المجال و التي يصعب التعامل معها دفعة واحدة بالرغم من صغر حجمها و قلة حيلتها


ـ ضبط الأسعار: في حين تتخد الشركات الكبرى من هامش الربح هدفها الأسمى الذي تستميت من أجل تحقيقه و لو على حساب راحة المستخدمين وجيب المستهلكين, تجعل المؤسسات الفرديةـالمعاشية من هامش الربح هدفا متغيرا يتفاعل مع العوامل الخارجية المحيطة. لهذا السبب نرى أن الشركات العملاقة في حال إرتفاع أسعار المواد الأولية و مصادر الطاقة, أو في حال الرفع من الأجور و الناجم غالبا عن ضغط نقابي, تقوم بالرفع من أسعار بيع موادها المصنعة للحفاظ على نفس مستوى الربح الذي حدد سلفا, و إن كان الربح محققا كذلك دون المساس بالأسعار المعمول بها سابقا. الشركات المعاشية, و كما يدل إسمها على ذلك, تضطر إلى أقلمة مداخيلها مع الظروف الراهنة, بصفة عامة, و القدرة الشرائية للمواطنين  بالأخص. فالشركات المعاشية ـ بخلاف الشركات الإستثماريةـ لا تعرف حدودا بين الربح و الأجر عند رب العمل و لا تفصل بين النفقات المتغيرة و الثابتة


ـ عقلنة الإنفاق: هناك من يعتبر الأسعار مرآة تعكس مستوى الإنفاق. و هو أمر صحيح إلى حد ما. فمصاريف الشركات الكبرى تضل متضخمة و إن كثر الحديث في أوساط المسييرين و الأكادميين و الخبراء عن ترشيد النفقات و ما يتصل بها من آليات و إستراتيجيات تهدف للرفع من الإنتاجية و الحد من النفقات الزائدة. بخلاف الوحدات الفرديةـالمعاشية التي تستغني على العديد من الوظائف المكلفة كالتسويق و الإشهار و أنظمة الجودة و المكاتب الفخمة, و حتى وظائف حيوية كالمحاسبة و تسيير الموارد البشرية. مما يؤهلها إلى خفض نفقاتها إلى مستوى قياسي لينعكس ذلك إيجابا على أسعار السوق, و بالتالي على القدرة الشرائية لشرائح عريضة, لم يعد يهمها شهادات الإيزو التي بحوزة المنتج و لا الوزن الفني أو الرياضي للشخصية التي تقوم بإشهار المنتوج, بقدر ما يهمها قدرة المنتوج على تلبية طلبهم و بأسعار تناسب قدرتهم الشرائية


ـ محاربة العقلية الريعية: في ظل شح الإستثمارات المباشرة, سواء القادمة من الشركاء الإقتصاديين الأجانب أو تلك النابعة من بعض رؤوس الأموال المحلية, يظل التوظيف الحكومي في نظر صناع القرار الخلاص الأخير الذي من شأنه زحزحة سوق العمل من الجمود القابع تحته منذ إندلاع الأزمة المالية منذ ما يزيد عن خمس سنوات. قرار التوظيف هذا يكون في في أغلب الحالات قرارا سياسيا أكثر منه إقتصادي. أي أن عملية التوظيف و ما سبقها من دراسة الجدوى لا ترتكز على حسابات إستثمارية, تأخد بعين الإعتبار نوعية الإستثمار و مردوديته المترجاة. كما لم تحدد الأهداف المالية و القيمة المضافة المرجوة من كل وظيفة على حدة, بل تهدف في المجمل إلى إمتصاص الحالات العاطلة الأكثر إلحاحا {الدكاترة, أصحاب الشهادات العليا, …}, في إجراء ريعي خالص يرمي أكثر إلى نشر عقلية ريعية تحد من آفاق الباحثين عن العمل و القادمين لسوق الشغل مستقبلا, بل و يقوقع أهدافهم و تحدياتهم في سيناريوهات جاهزة تتطلب التحقيق من السياسيين أكثر من المعنيين بها. أدبيات نظام إقتصاد القرب تختلف جدريا عما سبق ذكره بخصوص التوظيف الريعي. فالمطلوب من صناع القرار في ظل الإقتصاد المباشر, هو توفير الأرضية المناسبة لتسهيل و إنجاح المبادرات الفردية و وضع آليات تحفيزية تشجع على خوض غمار الشركات المعاشية, لتنقلب الصورة رأسا على عقب, بحيث تصبح الفكرة و تنفيذها و النتائج المترتبعة عنها من صنع نفس الشخص, و بالتالي تتحول كل وظيفة عمومية, غير منتجة  تقض مضاجع ميزانية الدولة عند صرف الأجور نهاية كل شهر, إلى مقاولة منتجة تدر مداخيل ضريبية لصناديق الدولة, و تلبي في نفس الوقت أسمى حاجيات الإنسان حسب النظرية “الطيلورية”, ألا و هو التحقيق الذاتي للأهداف الشخصية


هذه بإيجاز أهم مميزات إقتصاد القرب, و الذي بإمكانه تحقيق نقلة نوعية للإقتصادات القطرية و إخراجها من عنق الزجاجة
ما نهدف إليه من خلال هذا المقال هو لفت إنتباه المسؤولين للمخزون الهائل من الفرص الواعدة التي ينطوي عليها هذا النمط من المعاملات الإقتصادية المباشرة إن هو حصل على الدعم الكافي من الحكومات . هذا الدعم يجب أن يرتكز على نقطتين محوريتين , بجانب وضع آليات جانبية تؤثت الأرضية التي ستستقبل النمو السريع لإقتصاد القرب, و هما

ـ أولا: التكوين

بحكم أن الغاية من إقتصاد القرب تتبلور في إستهداف شرائح عريضة من المواطنين و إشراكهم في المشروع , فإن تسهيل و توسيع الولوج لبرامج التكوين ـ و لا أقول بالضرورة مؤسسات التكوين ـ أمر في غاية الأهمية, إذ أنه بدون أقلمة كفاءات و قدرات المواطنين بشكل يخول لهم إكتساب الخبرات الميدانية و المهارات الضرورية لمزاولة المهن و الحرف, فإنه يصبح من الصعب جدا تشجيع و إقناع هؤلاء بخلق مقاولاتهم و أوراشهم الفردية, كما من الصعب جدا أن تتلقى الدعوى لإقتصاد القرب الصدى المنشود و الواسع من طرف عموم المواطنين. و نظرا لقلة مؤسسات التكوين المهني في العديد من الدول النامية و عجزها عن إستيعاب الأعداد الكبيرة المستهدفة, فإن إبداع حلول مرتكزة على ما هو قائم من ظروف و معطيات أصبح ضرورة ملحة لتجاوز هذه العقبة من طرف صناع القرار. أحد هذه الحلول هو إشراك الشركات الفردية و الورشات الحرفية و المهنية القائمة في تنفيذ برامج التكوين, بحيث يتم وضع آليات تحفيزية {ضرائبية على سبيل المثال} لتشجيع أصحابها على إستقبال متدربين بشكل دوري. كما يتم إشراك وكالات التكوين و إنعاش الشغل المتواجدة في مختلف الجهات و الأقاليم في التأطير و التنظيم الميداني و الإداري

 ـ ثانيا: الدعم المادي

المقصود بالدعم المادي هنا هو إعطاء الدفعة الأولية التي من شأنها أن تخول للفرد وطأ قدمه في معترك إقتصاد القرب. هذا الدعم يشبه إلى حد كبير ما يصطلح عليه بالقروض الصغرى, إلا أن قيمته أضعف بكثير. فالغاية من القروض في هذه الحالة تتلخص في إقتناء أهم الأدوات اللازمة للشروع في مزاولة الحرفة أو المهنة في أبسط أشكالها. ليس بالضرورة أن يكون الدعم ماليا. فالباب مفتوح للإجتهاد لجعله عيني, كخلق بورصة للأدوات المهنية, مثلا, تشرف عليها الوزارات ذات الإختصاص, يلجأ إليها المهتمون لإقتناء أو كراء ما يلزمهم من أدوات جديدة أو مستعملة بأثمنة و شروط ميسرة

كلما تجولت في مدن المغرب, و خصوصا في أحيائه الجديدة أو تلك التي هي في طور الإنجاز, إلا و لفت إنتباهي ذلك الكم الهائل من المحلات التجارية الغير مستغلة. فلا أكاد أرى بيتا يخلو من محلات تجارية في طبقها الأرضي, حتى و إن لم يكن لموقعه صبغة تجارية أو صناعية حقيقية. الواضح أن الكل أصبح يراهن على الأعمال الحرة بعدما إنقطع وريد الرزق من المؤسسات الحكومية, ناهيك عن جمود القطاع الخاص بشقيه الصناعي و الخدماتي. كما يبدو أن المغاربة استوعبوا الدرس جيدا من ما آل إليه الإقتصاد المعولم و محدوديته, فبادروا بحسهم الواقعي إلى الإعداد لإقتصاد القرب الذي وجدوا فيه جادتهم

الواضح كذلك أن جاهزية البنية التحتية التي باتت متوفرة في بوادي و حضر المملكة {المحلات التجارية و المهنية} تدل, بما لا تخطأه العين, على إستعداد متقدم لمختلف شرائح المجتمع و رغبة حقيقية منها لخوض غمار إقتصاد القرب بكل ما يعده من آفاق و ما ينطوي عليه من تحديات. يبقى السؤال الأهم و الذي يطرح نفسه بشدة هو هل ستكون الحكومة الحالية و الحكومات اللاحقة في مستوى وعي المواطنين أم أنها ستستمر في غض البصر عن الموارد المحلية المتوفرة و المراهنة على حلول مستوردة من المحال تحقيقها.

معاريف بريس

www.maarifpress.com

تعليقات الزوار
Loading...
footer ads

footer ads