صحيفة إلكترونية استقصائية ساخرة
after header mobile

after header mobile

الحياة….من فوق و من تحت

          من لا يعيش عيش الفقراء و الطبقة المسحوقة عامة، أو على الأقل يمرُّ مرة بأكواخهم، ويلامس آمالهم و آلامهم، هو أشبه ما يكون بمن ينظر إلى الأرض من زجاج طائرة.فلا  يرى في هذا الكوكب العظيم إلا بساطا أزرق تتخلله بعض الكتل العمرانية .أما المشاكل الكبرى التي تقضّ مضجع سكان هذا الكوكب ،فلا ينتابه تجاهها أدنى إحساس بشفقة أو عطف .كأن هؤلاء الأرضيين مجرد كائنات صغيرة، تستوطن بيوتات تتراء له من فوق في حجم قرى النمل المهددة في كل حين بالطوفان بفعل تصرف بسيط طائش ما .

لكن يا سيدي الناظر إلينا –نحن سكان البسيطة –من على السحب، لا تستصغر شأننا و مشاكلنا.فتذكر أنك مهما ارتفعت و علوت ،و شئت أم أبيت ،ستشدّك جاذبية كوكبنا الساحر لتعود إليه .وأنك لن تبق خفيفا من كل شئ كما في خارج نطاق الجاذبية ،فأنت سرعان ما ستُثقَلُ بكل شئ ،بعد أن تدخل نطاقنا . و إني لأدعوك لأن تحمد الله كثيرا إن كان هذا حظك ،وإن كان حظا ثقيلا، و أعلم جيدا أنك ستشعر بشعور من عاش حلما جميلا ؛ركِبَ فيه خياله ،و شيَّد صروحه من ماس و درر، وافترش أرضها وردا ،ليرى نفسه فجأة يبتلعها فراغ مهول ،فقفز المسكين مذعورا .أي نعم ،احمد الله و اشكره آلاف المرات رغم كل ذلك ،فقد يكون حظُّك أثقل بكثير مما تتصور ،ذلك أن هبوط الطائرة لا يمر بسلام دائما ،قد يحدث طارئ ما ،حفظك الله منه ،إلا أن من نكد الدنيا على المرء حين يُسرّ كثيرا، غالبا ما تُكسِّر زجاجة فرحته مطرقة الويلات ،فضعها في الحسبان .و لذلك فإن نزلت ،و النزول لابد منه بعد مناطحة القمة طبقا للقاعدة الخلدونية ، فلا تتجه نحو أبراجك و صروحك الأرضية لتعاود التجربة ذاتها .إني أنصحك بالاتجاه مباشرة و دون تردد نحو أكواخ الفقراء التعساء ؛شعب النمل الذي رأيته من علِ .و إياك أن تدفعك الرغبة و الرهبة إلى مصافحتهم.فقد يتبددون في يدك العظيمة ، لضعفهم و وهنهم .و يلق بهم فعلك النبيل هذا في التهلكة .إن الفقراء يا سيدي الفضائي لا يحتاجون إلى مصافحتهم لكي تسرَّهم، فهم مسرورون بك أيَّما سرور إن زرتهم.و الأهم عندهم هو قيامك بمساعدتهم على تغيير حالهم البئيس بآخر أقل منه بؤسا ،فساعدهم مثلا على تغيير أكواخهم الأوهن من بيوت العنكبوت ،بمساكن يشعرون فيها أنهم أرقى من شعب النمل .ذلك أن نكدهم الأكبر في أكواخهم تلك هو غياب الأمن ،وفي غياب الأمن يستشري الخوف .و الخوف عملاق هدام أثناء طيشه تعمل معاوله عملها الفظيع.

الخوف حين يدخل الأجساد النحيلة يحوُّلها إلى منازل مهجورة، ويتحول هو إلى غول متوحش يسكنها.فإن مررت بها ،فلا تقف عند هذه الأجساد-الأطلال وقفة شاعر يبكيها و يستبكيها ؛فهذا الفعل البديع قد سبقك إليه امرؤ القيس منذ قرون ،وقد اضطلع بمهة البكاء على أتم وجه .فتقليدك إياه لن يكون إلا ضربا من لبس ثوب قديم ليس من مقاسك ،وإن ظننته عظيما ،ستبدو سخيفا كل السخافة ،وأنا متأكد من ذلك . فالأنبل منه أن تحرك يديك الكريمتين لترميمه ما استطعت. وتيقن جيدا أن هذا الجسد الخرِب كان بقليل من سوء الحظ أن يكون جسدك. اُنثر فيه قليلا من الأمن إذن حتى لا تتخذه الطيور العشواء وكرا لها .و إن تأخرت بعض الشئ ،و وجدتها قد استوطنته فلا جناح عليك ،بادرْ بطردها أولا ،و باشِرْ بعملية الترميم ثانية أيها العظيم .

يبدو، يا أصدقائي، أني أتحدَّث عن كائن فضائي بعيد عنا تمام البعد، لم يجمعنا به إلا نسج خيالي.لكني سأكشف لكم عن هذا الكائن الذي هو:أنا, و أنتَ، و أنتِ، و أنتم، وأنتن، و هو، وهي…وسائر ضمائر المتكلم و المخاطب و الغائب…نعم نحن جميعا حين تبتسم الحياة لنا أحيانا، و تتسع دائرة العيش من حولنا، تخِفُّ أنفسنا و تعلو نحو السحاب تطاوله .تستصغر هموم الآخرين و مشاكلهم ،وترى فيهم مجرد أشياء صغيرة حقيرة لا تستحق الحياة .لا لشئ سوى أن هاته المخلوقات المهمومة لم تنل حظها من كعكة ابتسامة الحياة .بل قادها قدرٌ أحمق للقاء الحياة مُكشِرة عن أنيابها بعد أن ابتسمت لنا نحن المحظوظين .و حين ابتسمت لنا لم نتعلم من درس الابتسامة هذا شيئا للأسف ؛فكم رأينا متسولا متسخا و تأففنا منه ،لأن رائحتَه الكريهة أفسدت علينا نشوة الاستمتاع برائحتنا الزكية الباهظة الثمن ،التي اقتنيناها البارحة من أفخم متاجر العطر الباريسية .و أمام سيل دعائه المقلِق و المستفزّ لرغدنا ،و إلحاحه الشديد على النيل من عطايانا .بحثنا في هستيرية مرعبة عن أصغر و أسخف قطعة نقدية مدسوسة في مكان ما في جيبنا ،و رميناه بها ،فالتقطها و أفرغ ما تبقى من طاقته بالدعاء لنا ثانيةً .و كم سمعنا مريضا يئنّ من شدة الألم ،تجاهلناه و بدَّدْنا أنينه برفع صوت مسجل السيارة ،وانطلقنا نردد أغنيتنا المفضلة ،تاركين إياه يردد الحمد الكثير لله مع كل دقة من قلبه العليل .كم مررنا بطفل متسخ الأسمال فتصوَّرناه لوحة زيتية نظرنا إليها بإمعان، مستمتعين بتناسق ألوان الجوع و الفقر و الحرمان التي رسمها الدهر بمهارة الفنان المحترف على ملامحه .و أعرضنا عن هاته اللوحة حين تحركت تُجاهنا طالبة شيئا ما ,لعلّها النقود أيضا. كم من مرة خرجنا مقتنعين بمدى جمالنا و حسننا و روعتنا، بعد وقفة طويلة أمام المرآة، تلك السيدة المتعجرفة التي كذبت علينا و شحنتنا بكثير من السوء.فلفظتنا نحو الشارع نستخف بهيآت الآخرين .أوجهٌ رأيناها بشعة وتمنينا في دواخلنا موتها ،لأننا ظننا عيشها بيننا –نحن معشر الزّين- ضربا من الاعتباط و العبث .

هذه الكائنات التي أحدِّثكم عنها، هي أجساد هجرها الخوف من الله،و شيّعت جنائز ضمائرها منذ أمد ، فظنَّت بغباء فرعوني أنها خالدة بعد أن دفنت ضمائرها .تلك الأجساد التي ضلّ سعيها في الحياة الدنيا و تحسب أنها تحسن صنعا.أجساد تاهت وراء السراب,هي جثث تمشي فوق الأرض مدفوعة بغريزة حيوانية عدوانية تنثر شرها في كل مكان .

الحقد ،يا من لم يشيِّع ضميره بعد ،والكبر، والغرور ،والأنانية ،والسادية ،والاستخفاف بالآخر المخطئ دائما ،وجنون الخلود والعظمة ،والتيه ،و الضلال ,والغيّ….طيورٌ عشواء تسكن تلك الأجساد المهجورة …فحاذرْ أن تكون الثانية ،فتسكنك الأولى…

 

عماد الفيزازي

معاريف بريس

www.maarifpress.com

 

تعليقات الزوار
Loading...
footer ads

footer ads