صحيفة إلكترونية استقصائية ساخرة
after header mobile

after header mobile

تعزيز ثقافة المواطنة للخروج من الأزمة

 عبدالعزيز بن عثمان التويجري

كلما ازدادت الأحداث اشتعالاً في مناطق من العالم العربي، قويت الرغبة في البحث عن العلل الكامنة وراء هذه الموجات المتلاطمة من الاحتجاجات والاعتصامات والتـظـاهرات وحركات الرفض والتمرد التي أصبحت تتـصـاعد بـوتيـرة تـطرح العديد من الأسئلة. وعند التأمل في أحوال العرب في هذه المرحلة، نـجـد أن الـشـعـوب الـعربـيـة واقعة تحت ضغوط حادّة من الأزمات الاقتصادية والمشكلات الاجتماعية، وتحت تأثير قوي من فقدان الأمل وانعدام الثقة وعمق الإحساس بانسداد الأفق أمامها. ولقد تضافرت عوامل كثيرة في نشوء هذه الأزمات المعقدة والمشاكل المزمنة، خلال عقود من السنين، تولد عنها اهتزازٌ مريع في مؤشر قيم المواطنة، وضعف وقصور في الشعور بالانتماء إلى الوطن، بالمفهوم القانوني الدستوري، وليس بالمدلول الثقافي الفكري.
وعلى تعدد المدارس الاجتماعية والسياسية التي تفسر المواطنة، فإن أقرب تفسير لها إلى القارئ العادي غير المتخصص في العلوم الاجتماعية والسياسية، هي أنها «حبُّ الوطن»، أي أن يكون الوطن في قلب المواطن، يخلص له الإخلاص كله الذي لا تشوبه شائبة، ويحافظ على مصالحه فلا يفرط فيها، ويعمل على حمايته من الأخطار، ويسعى جهده لخدمته والنهوض به. فإذا كانت الوطنية من الانتماء إلى الوطن، فإن المواطنة هي تعزيز لهذا الانتماء حتى يكون المواطن منصهراً في الوطن، فكأنه صورة منه ومثال له.


والمواطنة مفاعلة، أي تفاعل بين الإنسان المواطن وبين الوطن الذي ينتمي إليه ويـعيش فيه. وهي، وكما يقول الـدكـتور مـحمـد عـمـارة في أحدث كـتاب صـدر لـه هـذا الشهر، عـلاقة تـفـاعـل، لأنـها ترتب للطرفين وعليهما، العديدَ من الحقوق والواجبات، فلا بد لقيام المواطنة أن يكون انتماء المواطن وولاؤه كاملين للوطن، يحترم هويته ويؤمن بها ويدافع عنها، وأن يوفر الوطن للمواطن حقوقه كاملة في إطار المساواة والعدل.
وحينما يصل ارتباط المواطن بوطنه إلى هذه الدرجة من الاندماج والانصهار، تتعزز الثقة بين الطرفين بحيث تنكسر كل الحواجز التي تحول دون المشاركة الجماعية في النهوض العام بالوطن وبإنقاذه إن تعرض للمخاطر أياً كانت مصادرها. وغالباً ما تأتي المخاطر من الداخل، حينما تتفاقم الأزمات وتتكاثر المشاكل، وتقل أو تنعدم فرص الإنقاذ بالتصحيح، والمراجعة، أو بالتغيير، أو بالتجديد. فكثير من الأزمات التي تطفح اليوم على السطح وتعاني منها شعوب عربية، مصدرها وجود هذه الحواجز بين المواطن والوطن، المانعة من المشاركة الشعبية وفقاً للضوابط الدستورية والقانونية، والتي تجعل المواطن يعيش على هامش الوطن، وليس في قلبه.


إن اهتمام المجتمع الدولي بقضايا المواطنة والإنسانية والحوار بين الثقافات والتحالف بين الحضارات، يظهر جلياً من خلال الأنشطة التي تقوم بها المفوضية السامية لتحالف الحضارات واليونسكو، أو على الصعيد الإقليمي، من خلال البرامج التي تنفذها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة –إيسيسكو- التي تعبر عن الرؤية الحضارية للـعـالم الإسلامي إلـى هذه القضايا، أو على مستوى المنظمات والمؤسـسـات والـمراكز والهيئات والجـمعـيات الأهـلية، الـتي تـعنـى بـنـشر قـيم الـحـوار الثقافي المعزِّز للتحالف بين الحضارات، الذي هو عنوانٌ للمواطنة الإنـسانية الـقائمة على أسـس راسـخـة من الفهـم والتـفاهم والتسامح والتـعايـش، ومـن الاحـتـرام الـمـتبـادل للتعددية الـثـقافية وللـخصوصيات الروحية والثـقـافية والحـضارية للأمم والشعوب. وليس من شك أن قيم المواطنة في العالم الإســلامي تـتـآكل وتتـضاءل، لأسباب كثيرة لا يسع المجال لتعدادها، ولكن يمكن اخـتصارها في سـبـبين اثنين؛ تراجع الثقة بين المواطن والقائمين على شؤون الوطن، وتضاؤل الشعور بقيمة الوطن.
ومع تصاعد موجات العنف والرفض والكراهية والعنصرية في عالم اليوم، تتعاظم أهمية تضافر الجهود الخيّرة من أجل نشر ثقافة المواطنة الرشيدة المنفتحة على العالم، وتعزيز الحوار بين الثقافـات، والتـمـكين للتحالف بين الحضارات الذي يرسّخ الثقة بين أتباعها ويبني التفاهم الإنـسـاني الراقـي في إطـار الاحترام المتبادل المستند إلى قاعدة عريضة من القيم والمبادئ المـشـتركة بـين الأمم والشـعوب، ومنها قيمة المواطنة ومبدأ المشاركة في النهوض بالوطن، وفي تـعزيز الانـتماء إليه من أجـل الارتقاء بالمواطن حتى يكون مواطـناً نافعاً لوطنه ومـنفـتحاً على العالم، يتـفـاعل مع القيم الإنسـانية الكونية، ويؤمن بقيمه الدينية والوطنية، وبهويته الثقافية الحضارية.


ولقد أصبحت قيم المواطنة قيماً كونية، كما أصبح التعارف الإنساني قضية دولية. والمواطنة ركن من أركان الدولة الحديثة التي لا تكون إلا دولة مدنية، تستند إلى القانون الذي يتساوى في ظله المواطنون في الحقوق والواجبات، وتحترم فيه حقوق الإنسان التي كفلتها أحكام الشريعة الإسـلامـيـة قبل وثـيـقة حـقوق الإنـسـان والـمـواطـن الفرنسية، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والتي في ظلها ازدهت الحضارة الإسـلامية وعرف العالم كيف تتعايش الشعوب والأمم وتتقارب، وتتلاقح الثقافات والحضارات وتتحاور. أما التعارف الإنساني، فهو يقوم على قواعد راسخة من المواطنة الإنسانية الجامعة للبشر على قيم مشتركة، والرابطة بين الثقافات، والصانعة للتقدم الإنساني.
إن انخراط العالم الإسلامي في بحث القضايا الإنسانية العالمية والتفاعل معها والإسهام في إيجاد الحلول الحضارية لها، من خلال طرح رؤية الحضارة الإسلامية أمام المحافل الدولية، مهمة سامية تنهض بها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، وغيرها من المنظمات والمؤسسات، سواء تلك التي تعمل في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي وجامعة الدول العربية، أو سواها. وهي مهمة حضارية تصبّ في اتجاه تجديد بناء العالم الإسلامي على المستويات جميعـاً؛ المستوى الفردي الإنساني، والمستوى الاقتصادي التنموي، والمستوى العلمي التقاني، والمستوى السياسي الدولي. وستكون لهذه المهمة الحضارية إذا ما تضافرت الجهود على جميع المستويات لدعمها وتعزيزها، تأثيرات قوية في نشر ثقافة المواطنة في العالم الإسلامي التي تقوي الثقة في المواطن، وتشحنه بالطاقة العقلية والنفسية، للعمل من أجل أن يتغلب على مشاكله، وفي سبيل أن يخرج الوطن أي وطن من أزمته، والعالم الإسلامي من حيرته واستقطاباته المهددة لوحدته.


* المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة – إيسيسكو.

 

تعليقات الزوار
Loading...
footer ads

footer ads