صحيفة إلكترونية استقصائية ساخرة
after header mobile

after header mobile

ابن رشد ومستقبل الثقافة العربية

 

 

وُلد أبو الوليد محمد بن محمد بن رشد بمدينة قرطبة عام (520هـ/1126م) في بيت ورث الفقه كابراً عن كابرٍ، وفيه تمكّن من علوم زمانه. استظهر على أبيه “الموطأ” حفظاً، كما أنه أخذ الفقه عن أكثر من معلم، كأبي القاسم بن بشكوال، وأبي مروان بن مسرة، وأبي بكر بن سمحون، وأبي جعفر ابن عبد العزيز، وأبي عبد الله المازري. وترك لنا مجموعة من الرسائل والكتب الفقهية وعلى رأسها كتابه المشهور الذي يعد غاية في الأهمية وهو كتاب [بداية المجتهد ونهاية المقتصد في الفقه].

وقد درس ابن رشد علم الكلام، وتعمق في دراسة آراء الفلاسفة الذين سبقوه، سواء فلاسفة اليونان أو فلاسفة المشرق العربي والمغرب العربي. قدّمه ابن طفيل إلى الأمير أبي يعقوب يوسف عام (548هـ/1153م) فكلّفه الأمير بشرح مذهب أرسطو. وقد قام بذلك على نمطٍ ابتكره فخصّص لشرح كتب أرسطو ثلاثة أنواع من الشروح: الصغير (المجموع)، والمتوسط (التلخيص)، والكبير (الشرح). كما ترك لنا ابن رشد العديد من الكتب التي يشرح فيها فلسفة أرسطو، ومن بينها [فصل المقال…] و [مناهج الأدلة] و [تهافت التهافت]، وشروحه المتعددة على أكثر كتب أرسطو ككتاب [ما بعد الطبيعة] وكتاب [النفس] وكتاب [الكون والفساد] …إلى آخر هذه الكتب.

وكان ابن رشد –إلى جانب تعمّقه في الفقه والفلسفة- طبيباً، وقد اتخذه أبو يعقوب طبيباً خاصاً له. وألّف في الطب مجموعة من الرسائل والكتب وأشهرها كتاب [الكلّيات في الطب] وقد تُرجم إلى أكثر من لغة، وكان معروفاً في كثير من جامعات العالم في العصور الوسطى. وفي سنة (565هـ/1169م) تولى القضاء في إشبيلية ثم في قرطبة بعد ذلك بقليل. ولم يصرفه عنها إلا توليه طب الأمير لنفسه، ثم عاد مرة أخرى قاضياً للقضاة في قرطبة مسقط رأسه، وفي منصب أبيه وجدّه من قبل. غير أن الأيام تنكّرت له، واجتازت البلاد دولة الموحّدين، وحل السُّخط بالفلاسفة فصارت كتبهم ترمى في النار. ووشى به عند الأمير أبي يوسف فأبعده إلى أليسانة (قريباً من قرطبة). ثم أعيد له منصبه ومات في مراكش، عاصمة المغرب آنذاك في (صَفر سنة 595هـ/ 10 ديسمبر 1189م) ونُقل جثمانه إلى قرطبة حيث يوجد ضريحه.

 

 

1. ابن رشد ومستقبل الثقافة العربية:

إذا كان الفيلسوف العربي ابن رشد قد توفي في العاشر من ديسمبر عام 1198م وانقطع بوفاته وجود الفلاسفة العرب، بحيث لا نجد في عالمنا العربي منذ ثمانية قرون ونصف تقريباً، فيلسوفاً من الفلاسفة، فإن من الواجب علينا بعد أن ظلمناه كعرب حياً وميتاً، أن نبادر بالاستفادة من الدروس التي تساعدنا على حل العديد من قضايانا الفكرية. ومن المؤسف أننا نبحث اليوم عن حلول للكثير من مشكلاتنا، في الوقت الذي قدم لنا فيه ابن رشد ومنذ أزيد من ثمانية قرون، المنهج الذي يساعدنا على حل هذه المشكلات.

غير مجدٍ في اعتقادي: إهمال تراث هذا المفكر العربي الكبير، لقد تقدمت أوربا لأنها اتخذت ابن رشد نموذجاً لها، وقامت في أوربا حركة رشدية. أما نحن العرب فقد أصابنا التأخر لأن النموذج كان عندنا يتمثل في المفكرين التقليديين أمثال الأشاعرة والغزالي وابن تيمية.

كان ابن رشد حريصاً في تناوله للعديد من المشكلات التي تصدى لدراستها، على الالتزام بالعقل ومنهجه، فدعانا إلى تأويل النص الديني. وهذه الدعوة تُعد دعوة تنويرية في المقام الأول وتكشف أغاليط دعاة السلفية والأصولية.

ولو كنا قد وضعنا نِصب أعيننا تلك الدعوة، لكانت أمّتُنا العربية قد تقدمت في مجال الفكر ومجال الثقافة بوجه عام، وتَحَقّق لها التنوير الذي نتطلع إليه جميعاً.

ولكننا ما زلنا نتحدث عن كائنات خرافية وعن أشياء لا معقولة. لقد شاع ذلك في العديد مما يسوِّده البعض منّا حين يكتب ما يكتب. شاع في أحاديثنا أيضاً حين نَخلِط بين العلم والدين، ونقول بأسلمة العلوم، في الوقت الذي لا يصح فيه التمييز بين علم للمسلمين، وعلم للكفار….

قام ابن رشد بنقد أفكار الغزالي الخاطئة ونقد أفكار الأشاعرة الفاسدة، وعبر من خلال نقده عن الإيمان بالعقل بغير حدود، إيمان بأنه من الضروري أن ننفتح نحن العرب على أبواب المعرفة العالمية، تماماً كما نقول: «اطلبوا العلم ولو في الصين». لقد بيّن لنا أن العيب ليس في الدين، ولكن الفهم الخاطئ للدين. كان يشعر في أعماقه بالأثر السيئ الذي يمكن أن يُحْدِثه أصحاب الفهم الخاطئ للدين.

والواقع أن ابن رشد -عن طريق حسه النقدي- يقف على قمة عصر الفلسفة العربية. لقد أشعل النور في الأرض الخراب، وانتهى وجود الفلاسفة حين مات ابن رشد. ترك لنا ابن رشد آلاف الصفحات التي أساء فهمها في العصر الحديث أناس تحسبهم مثقفين وما هم بذلك، أناس حُشروا حشراً في دائرة المثقفين، والثقافة منهم براء، لأنهم أشباه مثقفين. ومن النادر أن تجد عربياً في العصر الحديث يفهم آراء ابن رشد حق الفهم، في الوقت الذي نجد فيه المستشرقين قد فهِموا ابن رشد ومنهجه. أليس هذا من مصائب الزمان؟! .. لو كان ابن رشد قد ولد في بلدة أوربية، لأقاموا له التماثيل في كل مكان، واحتفلوا بفكره خير احتفال، لكنه كان فيلسوفاً عربياً، فقمنا نحن العرب بالإساءة إليه وإهمال فلسفته.

إننا نشهد الآن تراجعاً عن طريق العقل وتضييقاً لمساحته، بحيث ارتفع بيننا صوت اللامعقول حتى زادت مساحته عن مساحة المعقول. فكيف نتحدث عن التقدم والحضارة والتنوير وقد أهملنا الطريق الذي يقوم على تقديس العقل؟

إننا من خلال مؤلفاته مثل: [ فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال ] و [ مناهج الأدلة في عقائد الملة ] و [ تهافت الفلاسفة ] الذي كَشف فيه عن مغالطات الغزالي، نستطيع أن نغرس في نفوسنا القيم البناءة، ومن بينها السعي نحو تأويل النص، وعدم الوقوف عند ظاهر النص والتمسك بالنقد البناء.

لقد دعانا ابن رشد إلى ضرورة التمييز بين مجال الدين ومجال الفلسفة. وإذا وضعنا ذلك في اعتبارنا فإننا سنتجنّب تماماً تلك المحاولات التي ما زالت مستمرة للخلط بين مجال الدين ومجال العلم، ومحاولة استخراج النظريات العلمية من الآيات القرآنية الكريمة. إن هذا فيما نرى يعد إساءة إلى ديننا الحنيف. وكم نبَّهنا إلى ذلك مفكرون كبار أمثال طه حسين، فالدين شيء ثابت مقدس، والنظريات العلمية تتغير باستمرار، فكيف -إذن- نُلْحِق الثابت بالمتغير؟

لقد قام ابن رشد بتأويل الآيات القرآنية على أساس العقل. فَعََلَ ذلك وهو فقيه، فلماذا -إذن- نقوم الآن بإغلاق الأبواب أمام التأويل ونُنْكِر على العقل دوره في البحث، العقل الذي يُعد أشرف ما خلقه الله فينا والذي يُعد أعدل الأشياء قسمة بين البشر.

هل من المعقول ونحن في القرن الواحد والعشرين أن ننظر إلى الفكر الأوربي الذي نعتقد من جانبنا أنه أعظم صور الفكر، هل من المعقول أن ننظر إليه على أنه بضاعة فكرية فاسدة ونقيم بيننا وبينه سداً منيعاً؟ ارجعوا إلى كتابات مفكري التنوير من أمثال أحمد لطفي السيد وطه حسين وزكي نجيب محمود وسترون أنه لا مفر من الترحيب بالفكر الأوربي الحر المستنير. وماذا ننتظر من أوربا، هل نطلب منها أن تقف الآن ولعدة قرون حتى نلحق بها كنوع من المشاركة الوجدانية والأخوة في الإنسانية، أم نطلب من الشعوب العربية -وهذا هو المنطق- أن تُسْرِع الخطى نحو الحياة والنور والتقدم وذلك حتى تفعل مثل ما فعلت أوربا؟ هل نطلب من القوي أن يصبح ضعيفاً، أم نطلب من الضعيف أن يأخذ بأسباب القوة والتقدم والكمال؟

إذا كان الفيلسوف ابن رشد يقف على قمة عصر الفلسفة العربية، فإن ذلك يرجع إلى حد كبير إلى حسه النقدي الدقيق. ليتنا نستفيد الآن من دروس الفلسفة النقدية عند ابن رشد. إننا إذا تأملنا بعمق في الجوانب النقدية عنده، فإننا لابد وأن نقول لأنصار الفكر الرجعي في عالمنا العربي المعاصر:

لقد انتهى الدرس أيها الأشباه وكفانا كلامكم الذي يعد تعبيراً عن الإرهاب الفكري. فعلى أساس الفكر النقدي نناقش الخصم حجة بحجة. ولا نقع في ظلام فكر جماعات التكفير والهجرة، ولا أدري تكفير مَنْ وهجرة إلى أين؟ وهكذا إلى بقية الكلمات المتقاطعة التي يعبرون بها عن فكرِهم المظلم ودعوتِهم الرجعية. على أساس الفكر النقدي عند ابن رشد نقول إن الإيمان القائم على العقل أفضل من الإيمان القائم على التقليد. فلا وصاية لفرد على فرد، والوصاية هي العقل لأنه الدليل والحجة واليقين. لو كنا قد استفدنا من دعوات ابن رشد النقدية لما وقعْنا في أَسر تلك البنوك والشركات التي تزعم لنفسها أنها شركات إسلامية وتتخفى تحت شعار الإسلام، والإسلام منها براء. هكذا إلى آخر الدروس التي يمكن أن نستفيدها من دعوة ابن رشد النقدية وذلك في عالمنا العربي المعاصر.

لم يدخّر ابن رشد جهداً في سبيل تعميق ثقافته الفلسفية عن طريق الأخذ من الفكر اليوناني الغربي. إنه وهو فقيه الفقهاء وقاضٍ في بلاد الأندلس لم يجد غَضاضة في الاطّلاع على أفكار الآخرين من غير بني قومه.

إنه يدعونا إلى الفلسفة والتفلسف كما فعل غيره من فلاسفة العرب في المشرق والمغرب، ويدعونا إلى مجتمع مفتوح على كل التيارات الفكرية.

2. تحليل كتاب [فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال]:

يعتبر كتاب [فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال] من أبرز كتب الفيلسوف والفقيه والطبيب ابن رشد، وخاصة في مجال التوفيق بين الدين والفلسفة. إذ من مجرد عنوان الكتاب نجد ابن رشد حريصاً على التوفيق أو الجمع بين الحكمة (الفلسفة) والشريعة (الدين).

نُشر هذا الكتاب أكثر من مرة، ومن بين نشراته نشرة يوسف مولر في ميونيخ بألمانيا عام 1859م، ونشرة القاهرة 1895م وغيرها من النشرات بالقاهرة أيضاً، كما تمت ترجمته إلى أكثر من لغة، من بينها اللغة الإنجليزية والتي قام بها ( جورج حوراني) وقد صدرت الترجمة الإنجليزية مع دراسة مستفيضة للكتاب عام 1961م.

ولننتقل الآن إلى تحليل أبرز الجوانب التي نجدها في هذا المصدر الفلسفي الممتاز الذي يحتل مكانة كبرى ورئيسية بين مؤلفات الفيلسوف ابن رشد، وخاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن ابن رشد يعد من أكثر فلاسفة الإسلام اهتماماً بالبحث في مشكلة التوفيق بين الدين والفلسفة، من خلال هذا الكتاب.

يذهب ابن رشد في أول كتابه إلى أن الغرض من هذا البحث هو الفحص على جهة النظر الشرعي، هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع، أم محظور، أم مأمور به، إما على جهة الندب، وإما على جهة الوجوب؟

ونود أن نشير إلى أن هذه الأحكام الخاصة بالندب والوجوب وغيرها، مستقاة من الفقه، وقد أشار إلى ذلك ابن رشد في كتابه [بداية المجتهد ونهاية المقتصد] وذلك حين فرّق بين الأمر بالشيء والنهي عنه والتخيير فيه. إنه يقول: « الأمر إن فُهم منه الجزم وتعلّق العقاب بتركه سمّي واجباً. وإن فُهم منه الثواب على الفعل وانتفى العقاب مع الترك سمّي  ندباً. والنهي أيضاً إن فُهم منه الحث على تركه من غير تعلق عقاب بفعله سُمّي مكروهاً، فتكون أصناف الأحكام الشرعية المتلقاة من هذه الطرق الخمسة: واجب، ومندوب، ومحظور، ومكروه، ومخيّر فيه وهو المباح».

وإذا كانت الفلسفة – فيما يرى ابن رشد في كتابه «فصل المقال…»- عبارة عن النظر في الموجودات، واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، وأن الموجودات تدل على الصانع لمعرفة صنعتها، وكلما كانت المعرفة بصنعتها أتمّ كانت المعرفة بالصانع أتمّ، فإن هذا يؤدي إلى القول بأن الشرع قد دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل، وطلب منا معرفتها به.

ولكي يقدم ابن رشد الدليل على ما يقول به، نجده يستشهد ببعض الآيات القرآنية الكريمة. ومنها قوله تعالى: ) أَوَ لَمْ ينظُروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلَقَ الله من شيءٍ( [الأعراف:185]، وقوله تعالى: ) وكذلك نُرِي إبراهيمَ ملَكوتَ السماوات والأرضِ( [الأنعام:75]، وقوله تعالى: ) أفَلاَ ينظُرونَ إلى الإبل كيف خُلِقت، وإلى السماء كيف رُفِعت( [الغاشية:17،18]، وقوله تعالى: ) ويتفكّرونَ في خلق السماوات والأرضِ( [آل عمران:191].

إن هذه الآيات وغيرها تبين لنا وجوب استعمال القياس العقلي أو العقلي والشرعي معاً، وإذا كان الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكان الاعتبار ليس شيئاً أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه، وهذا هو القياس، فمن الواجب إذن – فيما يقول ابن رشد- أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي، وهذا النوع من النظر الذي دعا إليه الشرع وحثّ عليه هو أتمّ أنواع النظر بأنواع القياس وهو المسمّى برهاناً.

ونجد ابن رشد لكي يبين لنا أهمية القياس البرهاني، نجده يميز لنا بين القياس الجدلي، والقياس الخَطابي، والقياس المغالَطي.

وعلى هذا يكون الدين قد حثّ ووصّى على عمل الفلسفة، لأن الله تعالى يأمرنا بالبحث عن الحقيقة.

ويمكن نظم هذا الدليل في صورة قياس كالآتي:

  • الغرض من الفلسفة هو النظر العقلي في الكون للوصول إلى معرفة صانعه وهو الله تعالى.
  • يأمر الدين على سبيل الوجوب بأن يُعرَف الله تعالى بالنظر في الكون والتفكر فيه.
  • إذن: دراسة الفلسفة واجبة بحكم الدين على القادر عليها، أي: على أولي الأدلة البرهانية.

إن الفقيه – فيما يذكر ابن رشد في كتابه [فصل المقال…] – إذا كان يَستَنبط من الأمر بالتفقّه في الأحكام، وجوب معرفة المقاييس الفقهية على أنواعها، ما منها قياس وما منها ليس بقياس، فإنه يجب على العاقل -إذن- أن يَستنبط من الأمر بالنظر في الموجودات، وجوب معرفة القياس العقلي وأنواعه، بل هو أَحْرى بذلك، لأنه إذا كان الفقيه يَستنبط من قوله تعالى: )فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الأَبْصَارِ( [الحشر: 2] وجوب معرفة القياس الفقهي، فالأَحْرى به أن يَستنبط من تلك المعرفة بالله تعالى وجوب معرفة القياس العقلي.

ويثير ابن رشد اعتراض بعض الناس على استخدام القياس العقلي ويقوم بالردّ على هذا الاعتراض: «إنه إذا اعترض معترِض قائلاً إن هذا النّوع من النظر في القياس العقلي بدعةٌ إذ لم يكن موجوداً في الصدر الأول للإسلام، فنقول إن “النظر” أيضاً في القياس الفقهي وأنواعه قد استُنبط بعد الصدر الأول ولا يقال إنه بدعة، فكذلك يجب أن يكون اعتقادنا في النظر في القياس العقلي».

ومن الواضح أن ابن رشد يريد الرد على من قالوا بضرورة الوقوف عند ظاهر الآيات القرآنية وعدم اللجوء إلى تأويلها.

فإذا كان القياس العقلي ضرورياً، فإنه يجب علينا -إذن- أن نستعين بأقوال مَن تقدّمنا، أي: أقوال الذين عاشوا قبلنا، وفي كل الأمم، وسواء كانوا مشاركين لنا في الدين أو غير مشاركين.

ومعنى هذا أن ابن رشد كغيره من فلاسفة الإسلام يدعونا إلى البحث عن الحقيقة بصرف النظر عن مصدرها، سواء كانت عربية أو يونانية، كما نقول: «اطلبوا العلم ولو في الصين». إن هذه الدعوة من جانب ابن رشد تُعد دعوة مهمة، وخاصة إذا وضعنا في اعتبارنا أن العصر الذي عاش فيه ابن رشد كان يوجد فيه تقييد للاشتغال بالمنطق والفلسفة، وذلك على أساس أنهما من بلاد اليونان. بل إننا في كل العلوم يجب أن نستعين بمجهودات مَن سبقونا إلى البحث فيها، يجب أن يطّلع كل باحث – في كل نوع من أنواع العلوم – على مجهودات وإنجازات من سبقوه وذلك حتى يُمْكنه التوصل إلى جوانب جديدة في بحثه، فلو فرضنا – فيما يقول ابن رشد – أن صناعة الهندسة في وقتنا هذا معدومة، وكذلك علم الفلك، وأراد فردٌ من الناس أن يعرف من تلقاء نفسه أحجام الأجرام السماوية وأشكالها وأبعاد بعضها عن بعض لما أمكنه ذلك.

وهكذا يعطينا ابن رشد الكثير من الأمثلة في كتابه [ فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال] والتي يبين لنا من خلالها أن ديننا الحنيف يدعونا إلى التعرف على علوم مَن سبقونا. وإذا كنا نجد بعض الناس قد وقعوا في بعض الأخطاء نتيجة لاطّلاعهم على كتب القدامى ومن بينها كتب المنطق والفلسفة، فإن هذا يعد أمراً عارضاً لا نستطيع بناءًا عليه أن نمنع الناس من البحث في كتب القدماء، تماماً كما نمنع العطشان من شرب الماء البارد العذب حتى يموت، لأن قوماً شربوا منه فماتوا. إن الموت من الماء أمر عارض، أما الموت بسبب العطش فهو أمر أكيد. وينبغي أن نعتقد أن النظر البرهاني لا يؤدي إلى مخالفة ما ورد بالشرع، إذ إن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه..إننا يجب علينا البحث في علوم القدامى وأن ننظر فيما قالوه، فإن كان كلُّه صواباً قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس بصواب نَبَّهنا عليه.

ويدعونا ابن رشد إلى التأويل، كما يشير إلى قواعد هذا التأويل، ويبين لنا أن الفقيه إذا كان يفعل ذلك، أي يقوم بالتأويل في كثير من الأحكام الشرعية، فإن صاحب العلم بالبرهان يجب عليه اللجوء إلى التأويل. يقول ابن رشد مؤكداً على هذا المعنى: «نحن نقطع قطعاً أن كلَّ ما أدى إليه البرهان، وخالفه ظاهر الشرع، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي. وهذه القضية لا يشك فيها مسلم ولا يرتاب بها مؤمن. وما أعظم ازدياد اليقين بها عند من زاول هذا المعنى وجرّبه، وقصد هذا القصد من الجمع بين المعقول (الفلسفة) والمنقول (الدين) بل نقول إنه ما من منطوق به في الشرع مخالف بظاهره لِما أدى إليه البرهان…ولهذا أجمع المسلمون على أنه لا يجب حمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها، ولا خروجها كلها عن ظاهرها بالتأويل».

ويشير ابن رشد في كتابه [فصل المقال…] إلى أنه من الضروري عدم إذاعة التأويلات على الجمهور الذي لا يعرف أسس البرهان وقواعد التأويل، وهذا يتفق مع تمييز ابن رشد بين الطريق الخِطابي (الجمهور) والطريق الجدلي (المتكلمين) والطريق البرهاني (الفلاسفة).

وإذا كان الغزالي في المشرق العربي قد لجأ إلى الهجوم على بعض الآراء التي قال بها الفلاسفة والتي تتعلق بموضوع قِدَم العالم وخلود النفس والعلم الإلهي، فإننا نجد ابن رشد حريصاً على أن يبين لنا أن المعنى الذي قصَده الفلاسفة، غير ما قصده الغزالي حين روى آراءهم، وكان قصد ابن رشد من ذلك أن يبين لنا إمكانية التوفيق بين الدين والفلسفة.

إن مقصود الشرع إنما هو تعلم العلم الحق والعمل الحق. والعلم الحق هو معرفة الله وسائر الموجودات على ما هي عليه وخاصة الشريعة، ومعرفة السعادة الأخروية والشقاء الأخروي. والعمل الحق هو الالتزام بالأفعال هي التي تسمى العلم العملي. وهذه تنقسم قسمين: أحدهما: أفعال ظاهرية بدنية، والعلم بهذه هو الذي يسمى الفِقه. والقسم الثاني: أفعال نفسانية مثل الشكر والصبر وغير ذلك من الأفعال التي دعا إليها الشرع أو نهى عنها، والعلم بهذه هو الذي يسمى الزهد وعلوم الآخرة.

لقد ذكر ابن رشد هذه العلوم جميعاً، وذلك لكي يبين لنا أنه لا خلاف بين الدين والفلسفة، ولا تعارض بينهما، بل ينبغي التوفيق بينهما. إن الشرع إذا كان يعلمنا العلم والعمل، فإننا نجد الفيلسوف يبحث في العلوم النظرية (العلم) والعلوم العملية أيضا (العمل). إنها دعوة من ابن رشد للتوفيق بين الحكمة (الفلسفة) والشريعة (الدين). إن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة، وهما المصطحبتان بالطبع المتحابتان بالجوهر والغريزة، وذلك ما يؤكده ابن رشد في آخر كتابه [فصل المقال…].

والواقع أن ابن رشد إذا كان قد استفاد بعض الأفكار في مجال التوفيق بين الدين والفلسفة، من الفلاسفة الذين سبقوه في المشرق العربي كالفارابي وابن سينا. وفي المغرب العربي كابن طفيل، إلا أنه يمكن القول بأنه قدّم لنا محاولة موضوعية متكاملة تتضمن العديد من الأفكار. هذه المحاولة هي التي جعلت لابن رشد مكانة خاصة وبارزة في مجال محاولات التوفيق بين الحكمة والشريعة، بين الفلسفة والدين. ومن الواضح أن ابن رشد كان مستفيداً من دراسته الفقهية، ومن إقدامه على تأليف الكتب والرسائل التي تبحث في المجالات الفقهية.

إن كتاب [فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال] يكشف عن عمق فكر الفيلسوف الإسلامي ابن رشد وتأملاته الدقيقة. إنه كتاب يحتل مكانة بارزة بين المؤلفات الفلسفية والفقهية وخاصة في مجال التوفيق بين الدين والفلسفة.

وإذا تساءلنا عن العلوم التي يمكنها الاستفادة حالياً من هذا الكتاب المهم والممتاز، فإننا نجد الكثير من العلوم، من بينها:

  • علم أصول الفقه.
  • فلسفة الدين.
  • علم المنطق، وخاصة في مجال التمييز بين الأدلة البرهانية، والأدلة الجدلية، والأدلة الخَطابية، والتفرقة بينها وبين الأدلة التي لا تسعى إلى اليقين، بل هدفها المغالطة.

لقد قدم لنا الفيلسوف الكبير ابن رشد في الحقيقة، إنجازاً فكرياً ممتازاً..قدم لنا ثمرة فكرية ناضجة نفتخر بها كعرب وكمسلمين وكمغاربة.

 

ذ .محمد عادل التريكي

 

www.maarifpress.com

تعليقات الزوار
Loading...
footer ads

footer ads