صحيفة إلكترونية استقصائية ساخرة
after header mobile

after header mobile

بريطانيا: لندن أم مقديشيو؟

هل هذه لندن أم مقديشو؟ تساؤل طرح وسط حالة ذهول من مشاهد شباب صغار السن ملثمي الوجوه، يجوبون شوارع العاصمة البريطانية ليلاً طوال خمسة أيام، يحطمون ويحرقون، ويلاحقون الشرطة، ويسطون على محلات الملابس والأحذية والمعدات الإلكترونية والطعام.

بريطانيا دولة « ليبرالية»، اقتصادها خامس أفضل اقتصاد في العالم. فما الذي يدفع شاباً صغيراً في الخامسة عشرة من عمره للانضمام إلى رفاقه والتجول في الشوارع عشوائياً بحثاً عن أي محل يمكن اقتحامه وسرقته، مغامراً بقتله أو اعتقاله على يد الشرطة؟

في القطار في لندن وبعد أعنف يوم من أعمال الشغب، كان كبار السن من الركاب يجولون بأبصارهم نحو الآخرين في القطار، وبالتحديد نحو صغار السن أو الأجانب. ربما يتساءلون: من أين أتى كل هذا الغضب؟

فهذه أسوأ موجة شغب في الذاكرة الحية للبريطانيين من حيث فداحتها واتساعها وعنصر المفاجأة فيها. السياسيون والصحف والمواطنون العاديون في غالبيتهم وجدوا أن «عار لندن» (عنوان إحدى الصحف اليومية) يقع على عاتق «المجرمين» و «الحثالة» و «العصابات» من هؤلاء الشباب صغار السن «العدميين».

عناوين الصحف في لندن عكست المزاج العام للسياسيين وغالبية المواطنين فجاءت على شاكلة «المواجهة»، «أزيلوا الحثالة من الشوارع»، «النار بالنار»، «سنطلق الرصاص» ، «الفوضى تنتشر». لكن بعض المشاهد على «يوتيوب» كان لا بد أن يثير حزناً وأسًى من نوع آخر. ليس حزناً على المجتمع الذي يواجه هؤلاء «المجرمين»، لكن أسًى على هؤلاء المراهقين وهم يظهرون «غربتهم» عن المجتمع الذي يعيشون في إطاره. ففي بريطانيا أعلى معدل في كل أوروبا لعدد المراهقين في السجون، بل إن معدلات سجن المراهقين تضاعفت ثلاث مرات منذ التسعينات من القرن الماضي.

والفارق بين العشرين في المئة الأكثر غنًى في هذا البلد، والعشرين في المئة الأكثر فقراً، أكبر مرتين من الفروق بين الأكثر غنى والأكثر فقراً في اليابان والسويد والنروج.

في ضاحية توتنهام اللندنية، التي خرجت منها أعمال الشغب بعد مقتل شاب بريطاني أسود، 50 في المئة من السكان عند خط الفقر، وواحد من بين كل خمسة أفراد بلا عمل.

خلال العام الماضي ومع الأزمة الاقتصادية وخفض النفقات الحكومية والتي استهدفت ضمن ما استهدفت القطاع العام والصحة والتعليم والرعاية والضمان الاجتماعي، كان واضحاً أن كثراً من البريطانيين يواجهون صعوبة في التكيف. فرواتب الغالبية العظمى جمدت، فيما ارتفعت الأسعار ونسبة التضخم. بعبارة أخرى مستوى حياة البريطانيين في الإجمال تراجع خلال العامين الماضيين في شكل ملحوظ.

ريتشارد ويلكنسون من «مؤسسة المساواة» لم تباغته أعمال الشغب كما باغتت السياسيين. فهو بحكم عمله في رصد الفجوة الطبقية في بريطانيا يقول إن أعمال الشغب هذه «لم يكن ممكناً تجنبها ولا مفر منها في مجتمع تتزايد فيه الفروق الاجتماعية بين الأكثر غنًى والأكثر فقراً».

لكن محاولة فهم أعمال الشغب هذه وتأثيرها الاجتماعي والسياسي والثقافي في المستوى الوطني، «جمدت» حتى تنتهي «حملة الإدانات» من السياسيين والصحف اليمينية والجمهور الغاضب. ومحاولة باحثين ربطها بأسباب اقتصادية أو عمرية أو اجتماعية صورت على أنها «تبرير مخجل ومشين».

أوضح مثال على «ضحالة» النقاش السياسي في البلد، الجدلُ الحاد بين هارييت هارمن نائب زعيم حزب العمال البريطاني، ووزير الدولة للتعليم في الحكومة البريطانية مايكل جوف حول أعمال الشغب. فبعدما دانت هارمن كل أعمال الشغب على أساس «أنها غير مبررة طبعاً»، طلبت من الحكومة الائتلافية بين المحافظين والأحرار الديموقراطيين «إعادة النظر» في سياسات حكومية ربما أضرت بالذات هذه الشريحة العمرية بين 13 عاماً إلى 17 عاماً، مثل تخفيض الإنفاق على التعليم وعلى برامج تأهيل هؤلاء الشباب ومساعدتهم في إيجاد أعمال موقتة بين الفصول الدراسية لتنمية مهاراتهم. إضافة إلى مضاعفة رسوم التعليم الجامعي ما يجعل هؤلاء الشباب بلا أي فرصة عملياً في الدراسة الجامعية. فرد جوف بحدة متهماً إياها بأنها تبرر أعمال العنف وتستغل الأحداث لخدمة حزب العمال بدلاً من أن تدين من دون تحفظ أو تبريرات. ثم ذكر المشاهدين أن حزب العمال هو المسؤول عن الأزمة المالية التي تعيشها بريطانيا وأن المحافظين «انتخبوا لينظموا الفوضى» التي تركها «العمال». فردت هارمن بلهجة دفاعية أنها لا تربط بين السياسات الحكومية وبين أعمال الشغب ولا تجد مبرراً لها وتدينها بلا تحفظ. ملخص ما اتفق عليه الاثنان هو أن «الدولة بريئة من المسؤولية. هؤلاء مجرمون ولصوص وعصابات».

لكن الأرقام الحكومية وأرقام المنظمات غير الحكومية تقدم صورة أخرى. فخريطة الفقر والحرمان في بريطانيا مرتبطة بخريطة العنف ونسبة دخول الأحداث إلى السجون وعدم نيل درجة جامعية. ولا تختلف بريطانيا في هذا عن غالبية دول العالم التي توجد فيها فجوات طبقية ملحوظة مثل أميركا. فوفقاً لدراسة أجرتها مؤسسة «أنقذوا الأطفال» البريطانية هذا العام حول فقر الشريحة العمرية من 1 إلى 18 عاماً، وجدت المنظمة أن 29 منطقة في بريطانيا تعيش حالة حرمان أو عند خط الفقر. وواحد من بين كل خمسة يعيش عند خط الفقر، أي الأسر التي تعيش على متوسط دخل سنوي يبلغ 12500 جنيه استرليني.

وفقاً للدراسة، فإن المدن التي تعاني فيها هذه الشريحة العمرية من أعلى معدلات فقر هي لندن، ومانشيستر، وبرمنغهام، وليفربول. (هذه هى المدن ذاتها التي شهدت انتشاراً لأعمال الشغب وسط الشريحة العمرية نفسها خلال الأيام الخمسة الماضية).

أما في لندن، فإن الأحياء الأكثر فقراً كانت «نيوهام» وبلغ معدل فقر الأطفال والمراهقين فيها بين عام إلى 18 عاماً، 25 في المئة، ثم هاكني 22 في المئة، وانفيلد 22 في المئة، وايزلينغتون 21 في المئة، وبرنت كروس 19 في المئة، وكرويدون 18 في المئة.

كل هذه الأحياء في لندن شهدت أفدح أعمال شغب، ومعدلات الفقر فيها تكاد تصل إلى ضعف نسب الفقر في باقي أحياء العاصمة. أما في مانشيستر فنسبة فقر الأطفال بلغت 27 في المئة، وبرمنغهام وليفربول 23 في المئة.

الفقر والتهميش والشعور بالفجوة الطبقية يتزايد في بريطانيا، خصوصاً بين الشباب، فهم أكثر شرائح المجتمع فقراً. وعندما يخرج المئات ليلاً يشعلون النار في محال ومتاجر ويسرقون ما يجدونه في طريقهم، فالرسالة واضحة وهي: «نحن لا نهتم بما تقولون». هذا لا يبرر العنف الاجتماعي، لكن يحض على فهم دوافعه.

فهو لم يخرج فقط من عباءة الفقر وضعف الفرص، بل من التدهور الأخلاقي للطبقة السياسية في بريطانيا. فقبل أشهر عاش البريطانيون فضيحة «المخصصات المالية» لأعضاء البرلمان، ثم فضيحة «التنصت» على الهواتف التي لامست سياسيين وصحافيين ورجال أعمال.

ويقول ويلكنسون «هؤلاء مجرد أولاد يشعرون بأن المجتمع عفن وفاسد. هذا هو تحليلهم وليس لديهم تحليل أبعد من هذا… هناك انعدام للأمل في المستقبل وشعور بعدم العدالة».

وتلاحظ إيما بورك التي تخرجت في الجامعة قبل سنوات، وكانت شاهدة عيان على أحداث شغب قريبة من منطقتها في لندن أن هذه الشريحة العمرية ضائعة «فالأطفال الصغار لديهم حضانات ومراكز لألعاب الأطفال ومتنزهات للعب والجري. والأكبر سناً، 18 عاماً فما فوق، لديهم النوادي الليلية. أما المراهقون بين 12 إلى 17 عاماً فليس أمامهم الكثير من الخيارات. لا يريدون الذهاب إلى متنزهات الأطفال، ولا يستطيعون الذهاب إلى النوادي الليلية… أنا لا أريد أن أكون مراهقة في لندن في الوقت الحالي».

عادة في ساعات الليل الأولى، يخرج مئات الآلاف من الشباب البريطانيين الصغار السن في شوارع أحيائهم بحثاً عن شيء يقضون به أوقاتهم، في لندن أو برمنغهام أو ليفربول أو مانشيستر أو نيوكاسل.

الخيارات محدودة، النوادي الليلة لا تستقبلهم لأن القانون يمنع من هم دون سن الثامنة عشرة من دخولها، وهم لا يمتلكون ما يكفي من المال لدخولها أصلاً. يقفون معاً في مجموعات على رؤوس الشوارع أو الميادين، يشربون ويدخنون.

في عالمهم الخاص المغلق، هم أنفسهم يتحدثون عن حالة «اغتراب» في اللغة والثقافة والتصورات. إنهم ليسوا جزءاً من «الثقافة المؤسسية» التي تتغلغل مع الصحف اليومية أو التلفزيونات. ثقافتهم «صناعة ذاتية» عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، من فايسبوك وتويتر. يجلسون في غرفهم مع أجهزة الكومبيوتر الشخصية ويصنعون ثقافتهم الخاصة. المجتمع لا يعرف الكثير عنهم ويستخدم دائماً عبارات اختزالية في وصف سلوكهم «غير الاجتماعي» «المتمرد» «العنيد». بعبارة أخرى هم «بلا صوت».

يوماً ما قال مارتن لوثر كينغ «الشغب هو صوت غير المسموعين»، وربما تكون هذه الرسالة، وليس مجرد سرقة ملابس أو أحذية أو تليفونات محمولة و «آي باد». فخلال جولة عمدة لندن بوريس جونسون في العاصمة لرؤية حجم التخريب، تحدث معه شاب بريطاني من أصول أفريقية قائلاً: أنا لست متورطاً في الأحداث، لكن هؤلاء ليس لديهم أى شيء. لا يجدون عملاً، لا يستطيعون دخول الجامعة. كثر منهم وأنا أعرفهم كانوا يودون دخول الجامعة لكنهم يعرفون أنهم لن يستطيعوا تحمل التكلفة. ليست هناك برامج اجتماعية أو أنشطة خاصة بهم في المجالس المحلية في أحيائهم بسبب خفض الإنفاق العام الذي طاول الكثير من الأنشطة والبرامج.

ويقول حنيف قدير من «مؤسسة التغيير الفعال» إن هؤلاء الذين شاركوا في أعمال الشغب الاجتماعي هم على الأرجح إما فقراء مهمشون، أو منخرطون بدرجات متفاوتة في ارتكاب جرائم صغيرة لكن في شكل منظم. ويستنتج أن أحداث الشغب تعكس «شعوراً عاماً بأن النظام خذلهم».

فالمشاكل الاقتصادية طوال العقد الماضي أدت إلى «فشل المجتمع» أيضاً، وفي بلدان أوروبية على رأسها بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا تزايدت الفجوة الطبقية الاجتماعية والتعليمية بين من يملك ومن لا يملك.

فهناك نمط حياة يروج له الإعلام طوال الوقت ولا يستطيع هؤلاء الشباب تحقيقه.

ويقول بول باجولي الذي أجرى دراسات في ظاهرة الاحتجاج الاجتماعي في جامعة ليدز البريطانية «الناس محاصرة بإعلانات ومنتجات مرغوبة، لكنهم لا يملكون الوسائل للحصول عليها بطريقة مشروعة».

ويلاحظ أن السؤال الذي كان يوجه له، منذ خفض الإنفاق العام في بريطانيا والذي طاول برامج الدعم الاجتماعي والصحة وأدى إلى ارتفاع معدلات البطالة وزيادة الفروقات الاجتماعية، هو ما إذا كان سيترتب على ذلك تظاهرات وأعمال شغب؟ وكان رده كلما طرح عليه السؤال «هناك شعور في أن صداماً بطيئاً سيحدث بعد الأزمة المالية… هناك أسباب مختلفة تدفع الناس للانخراط في أعمال شغب، لكن أهم هذه الأسباب هي أنه ليس لديهم أي شيء آخر يفعلونه».

ولا يختلف هذا مع استنتاج باتريك ريغن صاحب كتاب «ثقافة العصابات في بريطانيا» الذي قال بعد مقابلات مع المئات من المراهقين الذين انضموا إلى عصابات الأحياء في السنوات الماضية إن العنف الاجتماعي سببه «عدم الثقة في المستقبل».

ومن المفارقة أن البعض على «فايسبوك» سمّى أحداث الشغب البريطانية «ربيع توتنهام» لإسماع «صوت المهمشين والمنسيين» للمجتمع والسياسيين المنشغلين بأزمة الديون وإنقاذ البنوك والشركات الكبرى. فخلال الثورة في مصر كان ميدان التحرير مصدر جذب للباحثين والدارسين الغربيين. بعضهم ردد مراراً تلك الفكرة: «حتى نحن في الغرب نحتاج أيضا ثورة». ثم يبدأ الحديث عن شعورهم بالإحباط من نموذج ديموقراطيتهم.

أحداث الشغب البريطاني ليست شيئاً عابراً ولن تنتهي فوراً لأن لها جذوراً حقيقية. فالديموقراطية الرأسمالية أعطت للاستهلاك ومجتمع الوفرة قيمة كبرى. لكن مع أزمة اقتصادية ستطول وقد تتفاقم أكثر، يكون السؤال الشاغل هو: إذا لم تكن مستهلكاً… فمن أنت؟

الحياة :منال لطفي

تعليقات الزوار
Loading...
footer ads

footer ads